كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وإذ} أي: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذ {زين لهم} أي: المشركين {الشيطان} أي: إبليس {أعمالهم} الخبيثة بأنّ شجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر بن الحرث جاء إبليس وجند من الشياطين معه راية فتمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكنانيّ وكان من أشرافهم {وقال} غارًّا لهم في أنفسهم {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} أي: مجير لكم من كنانة {فلما تراءت الفئتان} أي: التقى الفريقان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء علم عدوّ الله إبليس أنهم لا طاقة لهم بهم {نكص على عقبيه} قال الضحاك: ولى مدبرًا وقال النضر بن شميل: رجع القهقرى على قفاه هاربًا {وقال إني بريء منكم} قال الكلبي: لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك، وهو آخذ بيد الحرث بن هشام، فنكص عدوّ الله إبليس على عقبيه، فقال له الحرث: إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال له عدوّ الله إبليس: {إني أرى ما لا ترون} ودفع في صدر الحرث، وانطلق فانهزموا قال الحسن: رأى إبليس جبريل بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب، قال قتادة: قال إبليس: إني أرى ما لا ترون وصدق وقال: {إني أخاف الله} وكذب والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوّة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم، وذلك من عادة عدوّ الله إبليس لعنه الله لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم، وقال عطاء: خاف إبليس أن يهلكه الله تعالى فيمن يهلك، وقيل: أخاف الله عليكم، وقيل: إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل: لما رأى الملائكة تنزل من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقًا على نفسه.
ولما انهزموا وبلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وقوله تعالى: {والله شديد العقاب} يجوز أن يكون من كلام إبليس أي: إني أخاف الله؛ لأنه شديد العقاب وأن يكون مستأنفًا أي: والله شديد العقاب لمن خالفه وكفر به.
فإن قيل: كيف يقدر إبليس أن يتصوّر بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطانًا؟
أجيب: بأنّ الله تعالى أعطاه قوّة، وأقدره على فعل ذلك كما أعطى الملائكة قوّة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنية لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما رئي إبليس يومًا فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة» وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان من يوم بدر.
{إذ} أي: واذكر إذ {يقول المنافقون} أي: من أهل المدينة، والمنافق هو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر كما أنّ المرائي هو من يظهر الطاعة ويخفي المعصية {والذين في قلوبهم مرض} أي: شك وارتياب، وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقع الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن، فلما خرج قريش إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا معهم إلى بدر، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا: {غرّ هؤلاء} المسلمين {دينهم} إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهمًا أنهم ينصرون بسببه، فقتلوا جميعًا منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وعديّ بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن أمية بن الحجاج، قال تعالى في جوابهم: {ومن يتوكل على الله} أي: يثق به يغلب {فإنّ الله عزيز} أي: غالب على أمره {حكيم} أي: في صنعه يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن إدراكه.
ولما شرح تعالى أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت بقوله تعالى: {ولو ترى} أي: عاينت وشاهدت يا محمد {إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} أي: بقبض أرواحهم عند الموت {يضربون وجوههم وأدبارهم} أي: ظهورهم وأستاههم، قال البيضاويّ: ولعلّ المراد تعميم الضرب أي: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر بمقامع من حديد {و} يقولون لهم: {ذوقوا عذاب الحريق} أي: النار.
قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وجواب لو محذوف، والتقدير لرأيت منظرًا هائلًا وأمرًا فظيعًا وعقابًا شديدًا، والملائكة مرفوع بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله: {يتوفى} ضمير الله تعالى و{الملائكة} مرفوعة بالابتداء و{يضربون} خبر.
{ذلك} أي: الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق {بما} أي: بسبب ما {قدّمت} أي: كسبت {أيديكم} من الكفر والمعاصي، وإنما عبر بالأيدي دون غيرها لأنّ أكثر الأفعال تزاول بها والتحقيق إنّ الإنسان جوهر واحد وهو الفعال وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع وهو العاصي وهذه الأعضاء آلة له وأدوات في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان {وأنّ الله ليس بظلام للعبيد} فلا يعذب أحدًا من خلقه بغير ذنب وظلام للتكثير لأجل العبيد أي: أنه بمعنى ذي ظلم.
{كدأب} أي: دأب هؤلاء الكفار بكفرهم مثل دأب {آل فرعون} وهو عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي: داموا عليه فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال: فلان دأب في كذا أي: داوم عليه وسميت العادة دأبًا لأنّ الإنسان مداوم على عادته مواظب عليها {والذين من قبلهم} أي: من قبل آل فرعون وقوله تعالى: {كفروا بآيات الله} تفسير لدأب آل فرعون {فأخذهم الله بذنوبهم} أي: بسبب كفرهم كما أخذ هؤلاء {الله الله قويّ} أي: على ما يريده فينتقم ممن كفر وكذب رسله {شديد العقاب} ممن كفر وكذب رسله وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما حلّ بهم من العقاب {بأن} أي: بسبب أن {الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم} أي: مبدلًا لها بالنقمة {حتى يغيروا ما بأنفسهم} أي: بأن يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ منه.
فإن قيل: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله تعالى نعمته عليهم، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة أجيب: بأنه تعالى كما يغير الحال المرضية إلى المسخوطة يغير الحال المسخوطة؟ إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كفرة عبدة أوثان فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت عليه فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب {وإنّ الله سميع} لما يقولون {عليم} بما يفعلون.
{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم} أي: أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ، كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف {وأغرقنا آل فرعون} أي: هو وقومه.
فإن قيل: ما فائدة تكرير هذه الآية مرّة ثانية؟
أجيب: بأنّ فيها فوائد:
منها: إنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل؛ لأن الكلام الأوّل فيه ذكر أخذهم، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل.
ومنها: أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله، وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها.
ومنها: أنّ تكرير هذه القصة للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: {بآيات ربهم} وبيان ما أخذ به آل فرعون.
ومنها: أنّ الأولى لسببية الكفر، والثانية لسببية التغيير، والنقمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم {وكل} أي: من الفرق المكذبة أو من غرقى القبط وقتلى قريش {كانوا ظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي وغيرهم بالإضلال واضعين الآيات في غير موضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل، ولما وصف تعالى كل الكفار بقوله تعالى: {وكل كانوا ظالمين} أفرد بعضهم بمزية في الشر والفساد فقال: {إنّ شرّ الدواب عند الله} في حكمه وعلمه {الذين كفروا} أي: أصرّوا على الكفر {فهم لا يؤمنون} أي: لا يتوقع منهم إيمان وقوله تعالى: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرّة} بدل البعض من الذين كفروا، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا أي: يساعدوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا ومالئوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فحالفهم، وإنما جعلهم الله تعالى شر الدواب؛ لأنّ شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم وشر المصرين الناكثون العهود {وهم لا يتقون} الله في حذرهم.
{فإمّا} فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة {تثقفنهم} أي: تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وظفرت بهم {في الحرب فشرد} قال ابن عباس: فنكل {بهم} أي: بهؤلاء الذين نقضوا العهد {من خلفهم} أي: من وراءهم من أهل مكة واليمن وغيرهما، فيخافون أن تفعل بهم كفعل هؤلاء، وقال عطاء: أثخنْ فيهم القتل حتى يخافك غيرهم {لعلهم} أي: الذين خلفهم {يذكرون} أي: يتعظون بهم.
{وإمّا تخافن} أي: تعلمن يا محمد {من قوم} عاهدتهم {خيانة} في العهد بإمارات تلوح لك كما ظهر من قريظة والنضير {فانبذ} أي: اطرح عهدهم {إليهم}، وقوله تعالى: {على سواء} حال أي: مستويًا أنت وهم في العلم بنقض العهد، بأن تعلمهم به؛ لئلا يتهموك بالغدر إذا نصبت الحرب معهم {إنّ الله لا يحبّ الخائنين} أي: في نقض العهد أو غيره.
روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرًا، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية، قال الرازي: حاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بقتل من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه، من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه، قال أهل العلم: إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن عاهدهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض، إمّا أن يظهر ظهورًا محتملًا أو ظهورًا مقطوعًا به، فإن كان الأوّل وجب الإعلام عليه على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك أن قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فحصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء، ويعلمهم بالحرب، وأمّا إذا ظهر نقض العهد ظهورًا مقطوعًا به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيش النبيّ صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
ولما بيّن تعالى ما يفعله صلى الله عليه وسلم في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه، وذكر أيضًا ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد، بين أيضًا حال من فاته في يوم بدر وغيره لكي لا تبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية النبيّ صلى الله عليه وسلم مبلغًا عظيمًا بقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} أي: خلصوا من القتل والأسر يوم بدر {إنهم لا يعجزون} الله أي: لا يفوتونه بهذا السبق في الانتقام منهم، إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن، فاته من المشركين ولم ينتقم منه، فأعلمه الله تعالى أنهم لا يعجزونه، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص {يحسبن} بالياء على الغيبة على أن الفعل للذين كفروا، والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرد من صدر منه نقض العهد إلى من خاف منه النقص واتفق لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار بقوله تعالى: {وأعدوا لهم} أي: لقتالهم: {ما استطعتم من قوّة} الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه، وفي المراد بالقوّة أقوال.
الأوّل: الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثًا». أخرجه مسلم، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا: «إذا كبسوكم فعليكم بالنبل»، وفي رواية: «ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبة أهله، ورميه بقوسه أي: نبله، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها». أخرجه الترمذي.